حدثنا حفيد العشاق عن أبيه فيلسوف الهوى عن جده كاتم أسرار المحبين أنه في سكرات موته قال:
من يعرف عنوان البراءة؟
ساد الصمت بين من أحاط بسرير مرضه وتكلم الجد فقال:
جائني إبن السلطان بوجه حزين ولحية كثة وعينان غائرتان من أثر البكاء.كان مترددا بالحديث وكنت أحثه نحوه .
قال بعد طول إمتناع : كنت في إحدى الأزقة المجاورة للسوق منتظرا العربة السلطانية لتقلني إلى القصر .مرّ في الزقاق جياد وبغال,وعبره حمير وجمال ولم تأتي العربة.كنت في ضيق من تأخر العربة ,وإنزعاج من روائح الدواب والأنعام.وضعت الطرف المنسدل من عِمتي على أنفي وشرعت أستنشق بخور الهند وشذى الشرق المنبعث منه.إلتصقت بالحائط مبتعدا عن طارقي الزقاق.
وأنا على حالتي تلك من الضيق والإنزعاج رأيت نورا ينبعث من الناحية البعيدة من الزقاق.جذبني نحوه الفضول.تركت طرف عمتي منسدلا ومشيت .كلما خطوت خطوة بإتجاه مبعث النور يزداد قلبي خفقانا.شعرت وأنا أدنو نحوه بإتساع الزقاق .خفّت حركة الدواب في الزقاق حتى أصبح خاليا منها.
في طرف الزقاق وعلى مبعدة مني رأيت فتاتان تودعان بعضهما بقبلات .غادرت إحداهما,بعكس إتجاهي, وبقيت الأخرى واقفة تودعها بنظراتها.لوحت تجاه صديقتها قبل أن تستدير قليلا.واجهت الجانب الأيسر من الزقاق فإكتست حوائطه نورا جميلا.سطع خدها الأيسر فأربكني.
قصرت خطوتي وخففت السير متعمدا.كنت مستمتعا بكل لحظة .خشيت الإقتراب منها فتوقفت قبلها بعدة خطوات.راقبتها ولاحظت كل مايبدر منها. غطاء رأس أسود .ثوب بذات اللون ينسدل جانباه خطان متوازيان تفصلهما مساحة ضيقة .ثوبها لا يلامس جسدها .تقبض أناملها الرقيقة على محفظة نقود جلدية موشاة بخيوط من فضة.حركاتها ناعمة كنسيم الصباح.بنيتها الصغيرة وقامتها دون المتوسطة تشي بالصبا دون إكتمال النضج.في إنتصابها ثقة تخلو من التعالي.
تجردت في حضرتها .صمتت الأصوات وإختفت الصور .كنت لحظتها لا أرى شيء سواها.
حانت منها إلتفاتة نحوي أصابتني في مقتل,فإنحنيت إجلالا.وجهها يعجز عن وصفه الشعراء.كان كأديم النهار .بشرته في بياض الثلج .يخالط بياضه سواد عينيها وحاجبيها فيسبغ عليه دفئا محببا.تتوه إعجابا في ملامح وجهها.دقة الأنف وسعة العينان يتناغمان مع الإستدارة اللطيفة لوجنتيها.أستغفر الله ,لكن لم أرى الحسن مكتملا في أحد سواها.
غلّفني العشق من فوري.إستولت على قلبي وتملكت فؤادي وإختطفت مهجتي بلا حول مني ولا قوة.ولم تكتفي بجمال خَلقها قاتلا فعززته بجمال خُلُقها.بل ربما لم ترضى بجمالها قاتلا فألجمته بخُلُقها,لا أدري.إسترقت نظرات كثيرة وتأملتها مليا.نازعت نفسي رغبة بالتحدث إليها ورغبة أخرى بالإكتفاء بقربها.إزداد شعوري بتواضعها .شعرت ببراءتها التي أضافت إلى جمالها بعدا آخرا.لبثت زمنا يعلم الله كم طال,أو قصر,وجدت بعده قدماي تنسحبان نحوها.وقفت في مواجهتها وقلبي تتسابق فيه الخفقات.بالكاد تحملاني رجليّ.شفتاي منطبقتان ترفض إحداهما مفارقة الأخرى.كانت منكسة رأسها ولما طال الصمت رفعت رأسها إلى مادون مستوى وجهي .قالت “هل أستطيع خدمتك بشيء؟” قلت في سري”تبا لتواضع الملوك.تريد أن تسدي إلي خدمة وأنا أريد أن أهبها قلبي و عيناي و روحي” .ذهب خجلي وتوارى إرتباكي خلف شجاعة آنية إغتصبتها لثوان فتشجعت وقلت”يا إميرة الجمال وياملكة الحسن,يا حامل الرقة وطارد الكِبر , يارمز البراءة ولوائها أجيبي سؤال يتيم من أسيرك :أين يقع عرشك وماهو عنوان برائتك؟” . إزدان وجهها بحمرة الخجل فإزداد ضياءً ,وإكتسى جمالها زينة الحياء فلمعت نجما في سماء الكمال.سمت هي نجما في السماء وتهاويت أنا في جب حبها السحيق وغرقت في بحر هواها العميق.
تكلمت بحروف تخشى مغادرة ذلك الثغر فتصبح عدما بعدها.قالت بخجل العذارى ورزانة العقلاء وحشمة سليل بيت الأشراف :إعفني من الإجابة.أجبتها :الملوك تأمر لا تسأل وما على العبد إلا السمع والطاعة.إنحيت لها وأضفت:أسأل مولاتي أن تعفيني من البقاء في مملكتها والسماح لي بمغادرة بلاطها.غادرت بعد أن تلاقت عينانا برهة لم أشفى بعدها.
تركت الزقاق وسلكت طريقا واسعا.همت بعدها على إتساع الدنيا التي ضاقت بي حتى باتت أشد ضيقا من زقاق وأصبحت ذكرى ذلك الزقاق متسع حياتي.
جميل كل وصف وكل عبارة كتبتها هنا
شعرت بأني أقرأ في الكتب القديمة بهذا الأسلوب
“باتت أشد ضيقا من زقاق وأصبحت ذكرى ذلك الزقاق متسع حياتي”
أعجبتني العبارة وتعبر عن أشياء كثيرة تواجهنا
الأجمل تعليقكم
وأنا أتمنى وجود,وأسعد ب,رأيكم خاصة في القصص فأنا أعتبركم حجة في اللغة
آمل أن يرى جميع القراء القصة بعينكم وأن تحوز على رضاهم.
شكرا أختي على مروركم وعلى تعليقكم وتشجيعكم.
يا ليت يوصل لك صوت تصفيقي …
كنت صفقت لك …
الحال مثل ما أوصفته الغاليه بوك مارك تلك هي لغة الكتب القديمه .. و القصه المستوحى من الحكايات القديمه ..
للأميره و الوالي .. و العهود القديمه .. و الحب والألم .. و الأمل … والغزل العذب !
باختصار تحلطم القصص جميله في مدونتك …
ونصيحة أخت فكر بإصدارك الأول 🙂
تمنياتي لك بالتوفيق ..
شكرا لك..
أختي وزميلة التدوين الجودي
شكراعلى هذا الإطراء والتصفيق الذي وصلني وسمعته وإستمتعت به
وشكرا على تشجيعكم الكبير
ومزيد من الشكر على نصيحتكم التي أفكر بها حاليا بنوع من الجدية وشيء من التردد والكسل.
وعلى فكرة أنت أول من نصحني بكتابة القصص والتركيز عليها.
شكرا لكم على ذوقكم.